أنسنة الماء في يناديك الفرات … للشاعر قصي الفضلي

بقلم – د. عواد الغزي –
لم تكن انسنة الأشياء في الشعر رؤية خاوية او تجسيد غامض المعنى بل هي مرايا شعرية تتعدد دلالاتها فالانسنة ان يضفي الشعر على الوجود بعدا آخر يحقق رؤية جديدة تجعل من الوجود حياة مانحة الخصب والنماء.
ولما كان الماء يحمل شفرة الوجود من جهة والحياة والامل من جهة اخرى فلا ريب في ان يمنح الشعراء مرايا تعكس فكرة الوجود وربط الزمن بوساطة الارتداد الى ايقونة الماءالوجودية وسر الحياة فيه.
وياتي نص الشاعر قصي الفضلي ليشكل مرايا مانحة الشكوى من منغصات الوجود التي تستبيح وجودية الماء بوصفه وجودا ابديا يحمل اسرار الانسان وخلقه الاول.
وتتمثل الانسنة في حوارية الماء بين الفرات ودجلة في فضاءمكاني يشكل وجود الماءالاول واستدعاءالانسان الاول الذي جعل من الماء طقسا عباديا ووجوديا رامزا للالوهية وتفير ذات الانسان.
وتتجسد الحوارية الاولى في الفرات:
يناديك الفرات
قم استيقظ من نومك الطويل
واركب امواجي الغاضبة
كي ندفن الذين يغرقون…
لقد كان الاستيقاظ دعوة لنبذ السبات الطويل ولملمة الوجود نحو الوطن وللخلاص ممن يشكلون نجوصا وحوديا فالاوطان تستنفر ابناءها بوساطة غضب امواجها التي تهدر بوجه الاستباحة والحيف.
ومن اشتط وركب الموج الغاضب فقد ارتقى على هموم الوطن واستباخ عذرية الوجود فماؤه لن يغفر الخطيئة والاثم سيلفضه الى مهاوي القاع .
وتسترد الحوارية كينونة الدلالة في انسنة دجلة ومقولتها:
تناديك دجلة
وبثغرها تلم وجنتيك
من اخذ ملامحك التي تركتها لنا
استيقظ
فما زلت امك
انا
اذ يمنح النص عبر انسنة النهر كينونة الامومة للماء فياتي النص محملا بدلالة العطف والامومة بعد ان كان هدير الفرات الغاضب يجسد كينونة الاب المتماسك صبرا بوجه الظلم والنكوص.
وتمثل دجلة مرايا شعرية تحنو فيها على الابن من بعد اشياق فتتمرأى العاطفة في وجل اللقاء وثلثم ولديها بحثا عن ملامح الوجود التي تشكل هي الاخرى مرايا شعرية مغيبة بفعل الزمن.
ومابين الغضب في هدير موج الفرات ومناداته لدفن الغرقى ونجوى دجلة في الحنو والبحث عن لحظة امومة في تيه الفراق تتشكل سيميائية الدلالة مابين الابوين الحانقين على الزمن ويكون فعل النداء(استيقظ) رمزية الدعوة الى زمن الخصب والنماء.
وما أن تعلن دجلة امومتها وتنادي ماءها المانح الحياة تلوذ الدلالة بماهية الوطن والانتماء اليه فلا وطن من دون الماء وماء الفرات ودجلة وطن ابدي من سومر الى الان ولاشك في ان الوطن له مريدون مثلما تبنى الفرات الابوة ودجلة الامومة فتاخذ مرايا النص بانتاح لوحة الوفاء للابوة بوساطة مرايا الولادة واستنسال الشهيد الذي يمثل نبراس الوجود عبر هدهدة الرصاص.
وتتجسد ايقونة الخصب والحياة المائية في دم الشهيد الذي يسجل تاريخ الوحود ولحن الحياة فالغرقى لم تلفهم امواج الفرات الابوية والنائمون لم تنفر منهم عاطفة الام المائية ويتقابل في المرايا الشعرية الغرقى والشهداء وتتقابل دلالة الافعال فالغرقى لم يدفوا بوصفهم احياء في حنو ابيهم الفرات الذي خلد وجودهم الابدي والشهداء لم يموتوا في مخيال امهن دجلة التي تناديهم بالاستيقاظ.
وتمنح المرايا صفة التوحد والتماهي للغرقى والشهداء ويغدو الماء في هاتيك النص مرايا تخلد الوجود والانسان وتجسد ديمومة الأوطان .